Sunday, July 12, 2015

ما أكثر الناس الذين أثروا على حياتنا و أحاطت بهم معرفتنا ولم تقع أبصارنا يوماً عليهم بل رأيناهم ببصيرتنا و 
أحببناهم من قلوبنا..وبقوا في الذكرى سطوراً لا تُنسى ولا تٌمحى..وزهوراً لا تذبلُ ابدا...


في سوريا, وفي ريف دمشق تحديدا..عندما كنت صغيرة كانت قي مخيلتي دائما صورة واضحة لمعنى الجدّة.. تعامل الجدّة مع أحفادها..طيبة الجدّة وفصصها التي لا تنتهي..ومع أنني لم يسبق أن رأيت جدتي بعد في ذلك العمر إلا انني اقتبستُ فكرتي عن الجدة من حكايا أمي ومن التلفزيون وكرتونات اوقصص لأطفال ...


وكان عندي أحلى فكرة وصورة في مخيلتي الواسعة عن جدتي الحبيبة .. كنت أتمنى وأتلهف طوال الوقت لرؤيتها..أغار من كل الأطفال الذين كنت أراهم في صحبة جدتهم الطيبة تدللهم تحضنهم وتجيب كل طلباتهم بالايجاب .. أتوق لسماع قصصها كما يتوق الظمآن للماء في صحراءٍ مُلسعة مُتقدة الحرارة....كنا في صحراء الغربة بلا أقارب كُثر فكنا نحلم بها...بالجلوس على حضنها (أكيد مو هلأ هههههه)....جدتي كانت ستكون أطيب من كلهم, والدة أمي. الله يرحمك. ويجعل الجنة مثواك يا ست الحبايب.

.
كنت أحبب القصص, ولا أزال, أطلق لمخيلتي الواسعة العنان فأنزل وابلاً من الاسئلة أرشقها على راوي القصة كالمطر..حتى تتكون في رأسي فكرة واضحة لحيثيات الفصة, تاريخ حدوثها, أسبابها وكل شئ...أسئلتي عادة ما تفوق دراية وإلمام الراوي بالقصه..فينزعج...في مخيلتي ما كانت لتنزعج جدتي ولا تضايقت..بل كانت ابتسمت رابتةً على كتفى قائلةً "آمنة, هذه الطفلة سيكون لها شأن ان شاء الله"


كبار السن عادةً ما يكونون طيبين, سمحي الوجوه, يشع النور الرباني من أرواحهم, تملأ الحكمة ثغرهم أفواههم..كبار السن, تحلو بهم الجلسة ويطيب بهم المقام...قلوبهم نظيفة من الأحقاد وكلامهم أبعد ما يكون عن الهٌراء..يسردون حكايهم المثيرة بأسلوب مشوق أبعد ما يكون عن المبالغة, والتهويل ,قصص ما خَبروا كل تلك السنين وخلاصة خبرة ا
لعمر..فكيف لا تحلو جلستهم ويطيب بهم المقام


كبار السن, أدركوا أن هذه الحياة جوفاء يملأها الخواء, أنها دار فناء ليس فيه بقاء, أن الدنيا كأس بحلوها ومرها, بسعادتها وحزنها, تدور على الناس والكل مجبر على شربها دون استثناء..عاشوا كل الويلات وشاهدوا بأم أعينهم الكثير..الكثير الكثير...من ضمير الشخص الأول.

عقوداً طوال رأوا فيها صومالاً في كل حالته..صومالاً محتلاً..من قبل مستعمر عدو يحلُ بشعبٍ فخور ما عرف الوهن والخضوع..أقام الثورات ولم يقعد..حارب , صال وجال حتى انتصر..ثم دولة جديدةً تنشأ, تحبو كالطفل نحو الحرية والاستقلال...سمعوا أهازيج الفرح والمرح..أغاني الاستقلال ..جدتي كانت ممن رقصوا على أنغام هذه الأهازيج..

.
جدتي ذهبو علي حاشي كانت ممن تؤلف تلك االأشعار وتتلوا القصائد بلسانٍ طلق..في اوقات الحروب والانتصارات, تُلهب الرجال تشجعهم, تحثهم, أولسنَ النساء مهندسي الانتصارات, أولسنَ مُنجبي الأبطال والزعماء والقادة, أولسن من يُعلمهم يٌربيهم على الاخلاق الحميدة, أولسنَ ملجأهم حين الضعف والهزيمة, يمسحن دموعهم يربتن على أكتافهم ويحرضوهم.. أولسن اذاً مهندسي الحروب والانتصارات !! ناشئي وهادمي الأمم.!


جدتي كانت من طراز هؤلاء النسوة, فالنساء طُرز و ألوان مختلفات. لسن متشابهات بل متشابهات في اختلافهن,يورثن هذا الاختلاف لأولادهن.
فبعضهن طيبات سموات بكرمهم وعطائهن, يجدن بالحُسن والكرم بطيب كلمتهن وفعلهن, يطيب معهن المعشر و تسلم الناس من لسانهن, هؤلاء مهندسي صانعي السلام..وعكسهن صانعي الفتن وشاعلي النيران..هم صانعوا الحروب والمصائب..


جدتي لو حكت لي شخصياً كانت ستحكي لي عن صومالٍ رأتهُ يترعرع في عينها, عن صومالٍ خاض موحداً حروباُ دموية مع الاثيوبيين الغادرين, وجرجرت الأمريكان النجسين في شوراع مقديشو الحرة, عن صومالٍ كانت في يوم دولةَ تٌهاب ويٌحسب لها ألف حساب, عن نمر أفريقيا في ما مضى...
دولةً عاشت فيها كل القبائل في حبٍ ووئام, فالأرض كل الأرض كانت لكل صومالي مين ما كان. عن صومالٍ لم يعرف العنصرية ولا التطهير العرقي, واشعار الآخر بالدونية لاسم عائلته ونسبه. صومال كان سيحصل على الاكتفاء الذاتي عام 2000.


عن صومالٍ لم نر قط بل سمعنا فقط عنه...وأمجاداً رواها الأجدادٌ لنا..

.
كانت ستحكي لي اننا نحب بعضنا...ولكن
الصوماليين افتٌتنوا, وابتلوا..فنحن أمةٌ تجمعنا الدين واللغة والثقافة بخلاف كل الأمم, أمةٌ تحب بعضها حتى ولو بدا لنا العكس.
كانت ستحكي لي, أنه مستحيل اذا شاهد صومالي أخاه نائما في شارع من شوارع الغربة أن يتجاهله بل يهبٌ الى نصرته ومساعدته, أوفعلنا ذلك حقاٌ لو مقتننا بعضنا..!
افتُتنا يا ابنتي, وخُيل لنا أن أخانا الصومالي عدونا, أنه لا يتمنى لنا الخير أو السعادة, أنه يكرهٌنا ويمقتنا ويُريد لنا الشر, فاقتسمنا الأراضي وأنشأنا دويلات على أساس قبيلة, على أساس عشيرة. وخال لكل دويلة أنها بذلك صارت دولة ولم تعد بحاجة الى أحد, صادقتا الغريب والعدو الحقيقي وقربناه لنا, اشترينا منه السلاح ظناً انه يحبنا ويريد مصلحتنا..نسينا أن في التفرق ضعف ومهانة وأن الوحدة قوةٌ وعز, وأن القبيل ما هو الا اسم وجد.


كرهنا العلم الأزرق وحملناه اخطاء حمقى, تهرّبنا منه ولوّنا أعلاماً اخرى اقنعنا أنفسنا, انها تمثل شيئا ما ,يرمز الى شيئا ما..
"ليس ذنب العلم" كما قال الكاتب الصومالي عوالي أحمد..والله ليس ذنب العلم بس الحمقى الذين نجسوا هذا العلم..


كانت جدتي ستقول أنها لا زالت تؤمن بهذا العلم..بقدسية هذا العلم وطهارته وصوماليته التي لا تُمس, وتمثيله لكل الصوماليين من كل حدبٍ وصوب, وأن هذه الفتنة اللعينة من تصميم ناس لا تريد لنا الخير أو التقدم.
كانت ستضيف, يا ابنتي الحبيبة صوماليا دولة تتمتع بموقع استراتيجي مهم, وأطول ساحل في افريقيا, دولة مليئة بثروة حيوانية وبحرية هائلة , أضف الى ذلك تلك الخيرات المدفونة تحت أراضينا من نفط ومعادن وغيرها!....صومالُنا محاط بمجرمين يتربصون بنا ولا يتمنون لنا اي خير, مهما قلّ, ولو استطاعوا لاجتثونا عن بكرة أبينا.


أضعنا بوصلتنا فضعنا...أضعنا تعاليم ديننا الحنيف فهُنا على بعض وضاعت عزُّتنا وكرامتنا التي دافع عنها حَلني باستماتة على حدود وجهالي ضد العدو الغاشم.
ليس ذنب العلم, لا تصدقي ذلك يوماً. وامشي على الارض رافعة الرأس غير مطأطأة, فصوماليا ستعود..ستعود أقوى من قبل بإذن الواحد الأحد.


لا فُض فاهك يا جدتي
"ماتت جدتي في شهر رمضان عندما كنا في سوريا قبل ان أراها و اقبّل رأسها وجبيبنها , فالله يرحمك وينور قبرك ويجمعنا واياكي في الفردوس الأعلى, اللهم آمين"

No comments:

Post a Comment